عرب يعملون ويهود نائمون... السخرية في رواية الأرض المحتلّة | أرشيف

سميح القاسم (1939 - 2014)، إميل حبيبي (1922 - 1996)

 

العنوان الأصليّ: «السخرية الّتي تقاوم في روايات الأرض المحتلّة».

المصدر: «مجلّة الدوحة».

الكاتب: وليد أبو بكر.

زمن النشر: 1 حزيران (يونيو) 1986.

 


 

 

 

ما أقوى ذاكرتهم!

كان هذا هو التعجّب الساخر الّذي وضعه سميح القاسم في روايته «إلى الجحيم أيّها الليلك»، كردّ على المزاعم الصهيونيّة الّتي تقول إنّ اليهود يعودون من منفاهم بعد ألفي عام. ثمّ أضاف إلى هذا التعجّب سؤاله الساخر: غير معقول! قلتم إنّكم لم تفقدوا الحنين إلى هذه البلاد، رغم غربة ألفي عام، فكيف تتوقّعون أن يفقد شعبنا الحنين إلى هذه البلاد، بعد غربة ربع قرن فقط؟

مثل هذا السؤال – الاستنكاريّ – يكشف لا معقوليّة الصهيونيّة، في مقولاتها من ناحية، وفي ممارساتها الإرهابيّة من ناحية أخرى، لذلك يصبح من الصعب أن يتعامل معها الفنّ الروائيّ بشكل من المنطق الّذي تحاربه. لذلك غالبًا ما يتّجه إلى الردود الساخرة، الّتي تطبع معظم الكتابة النثريّة في الأرض العربيّة المحتلّة، وفي مقدّمتها الرواية. لذلك لا تكاد أيّ رواية تخلو من هذه السخرية، الّتي تتفاوت في حجمها ومرارتها والقدرة على توظيفها، بين رواية وأخرى.

تتشعّب المواضيع الّتي تتعرّض للسخرية الروائيّة في اتّجاهات عدّة، لكنّها في محصّلتها تركّز على كشف الاحتلال، واعتباره حدثًا طارئًا لا يمكنه أن يستمرّ، لأنّه لا يملك ما يؤهّله للاستمرار سوى قوّة واحدة، هي قوّته العسكريّة، الّتي تعتمد على قوى خارجيّة من ناحية، وتستفيد من الضعف العربيّ من ناحية أخرى، وهذا عاملان قابلان للتحوّل، مع مرور الزمن.

 

اتّجاهات السخريّة في الرواية الفلسطينيّة

تنصبّ سخرية الرواية في اتّجاهين، الأوّل هو الواقع الّذي يحاول الاحتلال أن يخلق داخله نسقًا منسجمًا، من خلال مجموعة من التناقضات الحادّة الّتي توجد فيه. تشير سحر خليفة في روايتها «الصبّار» بسخرية إلى أنّ هذا المجتمع قد تشكّل من جنسيّات مختلفة، وثقافات مختلفة، ولغات مختلفة، وألوان مختلفة، ومع هذا يريد أن يشكّل مجتمعًا ينتسب إلى الشرق الأوسط. كما أنّ المتشائل في رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، يكشف أنّ هذه ’الدولة‘ ليست بنت معيشة، لأنّ أصحابها لا يعرفون لغتهم، وهم يتكلّمون كلّ لغات العالم على حدّ تعبير سميح القاسم في روايته «الصورة الأخيرة في الألبوم».

حين تحاول الدعاية أن تجعل من هذا المجتمع مجتمعًا عبريًّا نقيًّا، فإنّ الرواية تصوّر الواقع حين تجعل اليهوديّ يرى العرب في كلّ مكان، لدرجة أنّ أطفالهم يملأون السهل والجبل، كما ذكر إميل حبيبي في «سداسيّة الأيّام الستّة». كما أنّها تكشف زيف الدعاية حول الديمقراطيّة، فتتهكّم على حقوق الأقلّيّات المتساوية مع اليهود، ليشير سلمان ناطور في روايته «أنت القاتل يا شيخ»، إلى أنّ ذلك مجرّد خدعة، بينما توحي إشارات أخرى إلى العنصريّة الصهيونيّة الّتي لا تكتفي باحتقار العرب، وإنّما تطال اليهود الشرقيّين ’السفارديم‘ أيضًا؛ فالشارع في «أخطية» نائم، بسبب جوّ الشرق الّذي يُنيّم العرب العاملين فيه، وأمثالهم من اليهود الشرقيّين.

هذا الواقع المتناقض يُلجئُ الكيان الصهيونيّ إلى مزيد من التعصّب والإرهاب والحروب ضدّ العرب، وهو أمر تكشف الروايات أنّه مقصود لإشغال الناس عن واقعهم بخطر متوهّم، صوّره إميل حبيبي في روايته «أخطية» كسيف من السماء مسلول، لا يستطيع أن يصل إليه التحقيق المتكامل الّذي يبدأ من الشكّ في أنّ كلّ عابر سبيل هو عربيّ، وأنّ كلّ عربيّ متّهم بأن يكون ’مخرّبًا‘. لذلك، فإنّ كلّ من يتعرّض للتحقيق يعلن العدوّ عن اعترافه في محاولة لرفع المعنويات الّتي تصل حدّ الانهيار أمام كلّ ’حدث أمنيّ‘... ثمّ تُطْوى القضيّة كلّها، بعد إشغال الناس بها زمنًا، لتبدأ قضيّة أخرى تطارد حنين الناس إلى هذه البلاد في هذه البلاد.

ولأنّ واقعًا مثل هذا لا يمكن أن يطاق، فإنّ الاتّجاه الثاني الّذي يتعرّض لسخرية الروايات، هو الاتّجاه الّذي يحاول أن يقبل هذا الواقع، بالتكيّف أو بمساعدته على البقاء، بالضعف أمامه أو بالتعاون معه. وقد نالت شخصيّة ’المتشائل‘ قدرًا كبيرًا من السخرية لهذا السبب، فوصفه إميل حبيبي، على لسان والده، بأنّه تيس، منذ البداية، أمّا نهايته فلا يمكن أن تكون إلّا فوق خازوق، وهو الحال الّذي يصل إليه من أن يغمض عينيه عن الواقع، ويحاول أن يقبله.

 

الشخصيّة السلبيّة... ’المتشائل‘ نموذجًا

قدّمت الروايات تحت الاحتلال مجموعة من الشخصيّات السلبيّة المشابهة لشخصيّة ’المتشائل‘؛ فهناك شخصيّة سهيل عزّ الدين في «أنت القاتل يا شيخ»، وهي شخصيّة صدّقت الدعاية الصهيونيّة، الّتي تقول إنّ الدرزيّ مواطن، ولذلك حاربت مع العدوّ دفاعًا عن ’الوطن‘. لكنّ نهاية الشخصيّة كانت فوق خازوق معنويّ؛ ففي أوّل معركة خاضها سهيل عزّ الدين ضدّ ’العدوّ السوريّ‘، في حرب أكتوبر، قتل أخًا للحبيبة الّتي تعب كثيرًا حتّى حصل على موافقة أبيها، وهو أخ تركه والده عندما انضمّ إلى حرس الحدود، عام النكبة، ولم يعد قادرًا على العودة إليه. كما أنّ ’محامي الأمّة‘، في «أخطية»، شخصيّة سلبيّة أخرى يسخر منها إمبيل حبيبي، خاصّة حين يكتشف أنّ هذا المحامي يتظاهر بالوطنيّة، لكنّه في السرّ يتعاون مع العدوّ، مثل زميله المحامي ’عصام الباذنجاني» في «المشتائل».

إنّ السخرية إذن تأخذ طريقها إلى تناقض الواقع، وإلى الشخصيّات السلبيّة المختلفة، داخل الأرض المحتلّة وخارجها، وقد لجأت السخرية إلى كلّ الأساليب المعروفة – كتابةً – في هذا المجال، وكان هدفها النهائي هو توصيل مقولات الروايات النهائيّة، الّتي تتلخّص في رفض الاحتلال وفي الدعوة إلى مقاومته بكلّ الوسائل؛ فاستخدمت الروايات ألوان الفكاهة الّتي تتولّد من اللغة، وهو الأمر الّذي برع فيه إميل حبيبي أكثر من غيره، ممّا يشير إلى ثروته اللغويّة، والتراثيّة، وقدرته على توظيفها. وإذا كانت «المتشائل» قد لفتت الأنظار بهذه القدرة، فقد جاءت «أخطية» لتعزّز هذا الاتّجاه، ولتضيف إليه تجربة تربط الفكاهة اللغويّة بالبناء الفنّيّ للرواية، لدرجة أنّ المفارقات اللغويّة تظلّ جديدة ومدهشة مهما أعيدت قراءة الرواية، لأنّها قادرة على أن تفاجئ القارئ باستمرار؛ فلا يستطيع تعوّدها أو توقّع ما هو قادم منه. هذا إضافة إلى ما تقدّمه من دلالات تخدم مقولة الرواية الأساسيّة، وهي الإصرار على البقاء، قناعة به، عن طريق الوعي الّذي تنشره شخصية ’أخطية‘ من حولها.

بالرغم من أنّ شخصيّة ’أخطية‘ هي شخصيّة إيجابيّة، وتكاد أن تكون النقيض المتكامل لشخصيّة المتشائل، إلّا أنّ الأسلوب الّذي كتبت به الرواية، على شكل تحقيق صحفيّ وحواشيه، كانت قادرة على أن تتيح للراوي – قدرًا كبيرًا من التحرّك داخل الواقع، للسخرية منه، وحول الشخصيّات السلبيّة للغرض ذاته؛ فالرواية تتحدّث عن ’جلطة‘ مواصلات شلّت الحركة في حيفا، وبالتالي في الكيان الصهيونيّ كلّه، ممّا يكشف أنّه يقوم على الرعب، حتّى وإن كان ما يحرّكه مجرّد وهم. حين يجنّد الكيان الصهيونيّ كلّ جهوده للبحث عن عربيّ فلسطينيّ ملثّم ومسلّح، نزل من السماء كسيف مسلول فشلّ الكيان الصهيونيّ بأكمله، يقوم الراوي بمتابعة تحقيق الشرطة، بسخرية مرّة منه، كما يضيف إلى عمله تحقيقًا يجريه صحفيّ شابّ بواقعيّة تامّة. وتتولّد السخرية أساسًا من المقارنة بين التحقيقين، إضافة إلى لعبة اللغة الّتي يتقنها الكاتب.

إنّ التحقيق المتكامل الّذي تجريه السلطة، يلوّح بكلّ الأخطار الّتي يحاول الكيان الصهيونيّ في أن يبقيها حيّة، ليشغل الناس عن واقعهم، بينما تحقيق الصحفيّ الشابّ يكشف عن حنين قاد أحد الّذين هاجروا من حيفا ليعود إليها زائرًا، وينتهي مرحّلًا، لأنّ العودة الحقيقيّة لا تكون عن طريق الزيارة، وإنّما عن طريق النضال الّذي كرّسته كلّ الروايات تحت الاحتلال، كطريق وحيد للعودة.

خلال التحقيق، يوزّع إميل حبيبي سخريته على كلّ الأطراف المحتلّة، والمتعاونة، والجبانة، الّتي لا تختار طريق النضال؛ فالعجوز اليهوديّة الّتي أكدّت أنّها شاهدت العربيّ الملثّم بأمّ العين، قالت إنّه كان يرتدي ما كان يرتديه جيرانها العرب في طبريّا، أيّام كان لها جيران عرب. أمّا اليهوديّ المتديّين فقد كان استغرابه كبيرًا، لأنّه لم يسبق له أن شاهد عربًا – فهو لا يخدم في الجيش – ولذلك تساءل: وهل تخلع بناته ما تخلعه بناتنا؟

أمّا لجنة التحقيق فقد قدّمها إميل حبيبي بما تستحقّه من سخرية، خاصّة وهي تحاول عبر أعضائها أن تتظاهر بالفهم وهي تعتمد على الكثير من الغيبيّات في تفسير الوقائع، كما تعتمد على قصّاص أثر عجوز محال على المعاش لاستشارته. وحين تحدّث عن الشخصيّات المتعاونة، استعاد ما سبق أن وصف به المتشائل، لكن بشكل أكثر ذكاءً؛ فمحامي الأمّة، الّذي يركب الجاغوار الغامقة اللون، ويسير على خطى والده المرحوم في التعاون، يتلقّى لطمة العدوّ وهو يبتسم، ثمّ يرسل محاميه لمقاضاة الّذين دافعوا عنه، حين يسمع أنّ هناك مَنْ يدافع عنه خارج الأرض المحتلّة، يعلن براءته من الإنسانيّة جمعاء، ويخرج من المحكمة وهو يرفع إشارة النصر، هو ومَنْ حاكموه، لأنّ نتيجة موقفه كانت لصالح ’الديمقراطيّة الإسرائيليّة‘ المزعومة.

 

السخرية ما وراء اللغة

إذا كان إميل حبيبي قد اعتمد كثيرًا على المفارقات اللفظيّة، فاستخدم الصرف والجناس والسجع والنحت والإيقاع والتكرار بشكل مكثّف، فإنّه، هو وغيره من كُتّاب الرواية، لم يكتفوا بالسخرية اللفظيّة، وإنّما استخدموا أساليب أخرى منها ما يعتمد على الموقف، الّذي غالبًا ما يتحوّل إلى كوميديا سوداء، خاصّة إذا تحوّل إلى المقارنة بموقف آخر. كما يحدث عندما تكتشف ’روتي‘ اليهوديّة أنّ جنود والدها الجنرال المتعصّب، قد قتلوا شقيق حبيبها، الشاب المتفتّح، الّذي سُدَّت في وجهه سبل التعليم فحاول أن يفتحها بالتسلّل إلى سوريا، حيث قُتِلَ  واتُّهِمَ بأنّه مخرّب، في رواية «الصورة الأخيرة في الألبوم» لسميح القاسم، وهو الموقف الّذي حدا بروتي أن ترفض الحياة، في مثل هذا الكيان العنصريّ، وأن تختار الموت البطيء لعلّ صورتها تكون آخر صورة في ألبوم والدها الرهيب.

كما أنّ معظم المواقف الّتي اختبرها سهيل عزّ الدين في «أنت القاتل يا شيخ» لسلمان ناطور، تؤدّي نفس الغرض، لأنّ الشابّ ظلّ مخدوعًا بالمساواة، وحصل على التعليم، وحقّق حلمه في خطبة من يحبّ، ولم يستطع ما يراه أو يسمعه من حوله، خاصّة في الجامعة، أن يهزّ قناعته، لأنّه كان يحاول ألّا يرى وألّا يسمع، حتّى جاء وقت التجربة وطالب أن يُعامَلَ مثل موشي وكوهين في اختيار مكان خدمته في الجيش، لكنّه وجد أنّ كلّ الطرق مسدودة في وجهه، إلّا طريق فرقة الأقلّيّات المتخصّصة في قتال العرب، وهو الطريق الّذي يؤدّي إلى اكتشاف أنّه قد خُدِعَ كلّ عمره، من أهله ومجتمعه ومدرسته الّي تزوّر التاريخ.

لقد أفرط المتشائل في الولاء، حتّى أصبح الأمر تفريطًا، وهو ما حدث مع سهيل عزّ الدين، ومحامي الأمّة، وحتّى الأستاذ ’م‘ في «سداسيّة الأيّام الستّة»، الّذي قتل ذاكرته وهو يحاول أن يتكيّف مع واقع الاحتلال، وحين أحسّ بعدم جدوى ذلك، لم يستطع أن يستعيدها.

 

عرب يعملون ويهود نائمون 

أمّا تناقض المواقف في سلوك المحتلّين، فالروايات تزخر به، إذ أنّ المحتلّ يزعم باستمرار أنّه متحضّر، لكنّه يسلك سلوك غير المتحضّرين في كلّ ممارساته، بدءًا من العنصريّة وانتهاءً بالإرهاب. ولأنّه يدّعي حقًّا، يعرف في داخله أنّه ليس له، فإنّ كلّ ادّعاءاته حول هذا الحقّ في العودة إلى ’أرض الميعاد‘ تبدو متهافته ولا تستحقّ إلّا النكتة الّتي تتحوّل إلى ما يشبه التعلّق بعظام نخرة. كما أنّ ادّعاءه بتميّزه، باعتباره ’شعب الله المختار‘ يبدو متهافتًا أمام الواقع الّذي لا يبدو له تميّز فيه إلّا القوّة العسكريّة، فحتّى قوّة العمل والإنتاج تأتي من العرب الّذين يسري شبابهم، مثل نوّار اللوز، إلى الإنتاج كلّ صباح بينما يواصل اليهود النوم.

حين يدّعي بعض المستوطنين الإيمان، فإنّ سلوكهم يوحي بعكس ذلك. فأحد المصلّين اليهود في «عبّاد الشمس»، لسحر خليفة، يقطع صلاته ويطلق النار على طفل عربيّ ويرديه قتيلًا، ثمّ يعود إلى الصلاة. إنّ المستوطن اليهوديّ، خاصّة إن كان غربيًّا، يرتّب أموره بحيث يرتاح ويستفيد من جهد العربيّ، أو اليهوديّ الشرقيّ، الّذي يكاد أن ينفي عنه يهوديّته، لأنّه متأثّر بالبلدان الّتي عاش فيها. بلغ الأمر، عند إميل حبيبي، حدّ مناقشة التخفّف من مهامّ العلاقات الزوجيّة، حين روى في «أخطية» أنّ اليهود اجتمعوا برجل الدين يسألونه إن كان اقترابهم من نسائهم في ’السبت‘ عملًا أو لذّة، فقال إنّه لذّة، وعندما سألوه تفسيرًا قال: لو حكمت لكم بأنّه عمل، لأوكلتموه إلى العرب.

تبدو هذه النكتة مباشرة، وهي لا تقف وحيدة في ذلك، لأنّ بعض الروايات تلجأ إلى مثلها، خاصّة حين تكون معبّرة عن رأي اليهود في مجتمعهم. روتي مثلًا، حين تفهم – بالحوار – طبيعة مجتمعها، تؤكّد أنّ هذا هو رأي بعض اليهود أيضًا، ثمّ تروي نكتة تقول إنّ المجتمع ’الإسرائيليّ‘ ينقسم إلى ثلاثة أقسام، الأوّل هم الّذين دخلوا السجن، والثاني الّذين هم في السجن الآن، أمّا الثالث فسيدخلون السجن قريبًا.

 

السخرية الوصفيّة

إضافة إلى كلّ ذلك، تلجأ الرواية العربيّة تحت الاحتلال إلى الوصف للسخرية؛ فإميل حبيبي يعطي الشخصيّات السلبيّة أوصافًا تثير الضحك، مادّيّة ومعنويّة، لكنّهم يبقون أكثر قبولًا عند مقارنتهم بالعدوّ. إنّ المتشائل، رغم كلّ صفاته الّتي حولته إلى أشبح بالمسخ، يبقى أطول من الحاكم العسكريّ اليهوديّ، حتّى عندما ينزل عن الحمار. أمّا زعماء الصهيونيّة الكبار، فهم في «أخطية»، مجرّد ’أحابيش‘ صغار، كالّذين وصفهم المسعودي في مروج الذهب، ممّن يصعدون إلى البحّارة كإنذار بسوء الحال. ولأنّ سوء الحال مستمرّ تحت الاحتلال، فإنّ هذه الأحابيش، من البناغرة الصغار والديانات الغار – نسبة إلى بن غوريون وموشي دايان – يملأون الشوارع، وحين يختلفون، لا يستطيع مَنْ جاؤوا بعدهم أن يصلوا حتّى إلى مرتبة ’الأحابيش‘ الّتي يضحك لها المؤلّف وهو يتصوّر أحابيش بيغن وشارون.

حين يستفيد إميل حبيبي من تراث المسعودي في رسم هذا المشهد في روايته، فإنّه لا يكتفي به، لأنّ التراث يتّخذ عنده أهمّيّته في الشكل الروائيّ الّذي يختاره من ناحية، وفي مادّة التراث ذاتها من ناحية أخرى؛ فبالإضافة إلى استخدامها للتأكيد على عروبة الأرض وأصالة أهلها، فإنّه ينفذ من كلّ ذلك إلى توظيفها في السخرية من مقولات العدوّ وادّعاءته. فحين تقول لجنة التحقيق في «أخطية» إنّ الشرق منوّم، وتستدلّ على ذلك بحكاية مدينة النحاس في «ألف ليلة وليلة»، يقف المؤلّف في وجه هذه المقولة، ليذكّر بحكاية الأميرة النائمة في الفلكلور الغربيّ، وحين يدور البحث حول ’الخمار‘، فإنّه يذكّر الّذين يثيرونه بتقليد حزام العفّة الّذي عرفه الغرب، ويتساءل: هل استطاع حزام العفّة أن يثير قريحة شاعر غربيّ، كما استطاع ’الخمار الأسود‘ أن يفعل؟

لقد قيل: شرّ البليّة ما يضحك، ويبدو أنّ بليّة الاحتلال أكبر من كلّ الشرور، حتّى تحوّلت السخرية منه إلى سمة أساسيّة في الروايات العربيّة الّتي تُكْتَبُ تحت الاحتلال، لكنّها السخرية الأقرب إلى الجدّيّة، لأنّها لا تقال من أجل أن يضحك الناس وينسوا، لكنّها تقال لتعبّئ الناس، فلا يبقى أمامهم إلّا اختيار وحيد: أن يقاوموا هذا الاحتلال حتّى يستطيعوا أن يضحكوا ضحكًا لا تولّده البليّة.  

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.